فالذين فسروا حديث عبد الله بن مسعود بحديث سهل في كلامهم شيء من الإخلال والتقصير، وذلك لأن حديث سهل بن سعد فيه: {يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس} لكن هو في الحقيقة عامل بعمل أهل النَّار، وعكسه {يعمل بعمل أهل النَّار فيما يبدو للناس} لكنه في الحقيقة يعمل بعمل أهل الجنة هذه حالة، والذي تكلمنا عنه حالة أخرى، وهي حالة إنسان يعمل بعمل أهل الجنة لحظات أو أيام أو فترات، ثُمَّ يعمل بعمل أهل النَّار فترات، والاحتمال الثاني هنا أعم في الدلالة، فحديث عبد الله بن مسعود فيه زيادة وهي أن تتهم نفسك، وتحرص عَلَى الخير، وتجتهد عَلَى أن تقوي إيمانك كل ما ضعف، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الإيمان ليَخْلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب} يعني يبلي، فإن خَلق يخلق: بلي يبلي مثلها وزنا ومعنى، فالإيمان يبلى كما يبلى الثوب، فجدد إيمانك كما تجدد ثيابك تغسلها أو تغيرها، فلو جَاءَ الأجل والإِنسَان قد بلي إيمانه ولم يجدده فإن هذا هو الخطر، وإذا جاءه وقد جدد إيمانه يكون الخير، فيفهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تَعَالَى عنه أن الأعمال بالخواتيم، وأن الإِنسَان يجتهد في أن يزداد إيمانه، وأن يتهم نفسه، والإِنسَان في الحقيقة قد يكون ممن لديه إيمان، لكن هذا الإيمان بلي مع الزمن، كما طال الأمد عَلَى أهل الكتاب فقست قلوبهم، ثُمَّ عوتب أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك أيضاً قال تعالى:((وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ))[الحديد:16] فقد كَانَ إيمانهم حقيقياً صادقاً ولكن مع طول الأمد بغير تجديد، يقسو القلب ويصبح الإيمان أمراً عادياً لديه، فلو أدركت العبد منيته في حال قسوة القلب، لكان من أهل الشقاوة -عياذاً بالله- ليس لأنه كَانَ يعمل الطاعة فيما يبدو للناس، وإنما لأنه كَانَ يعملها، ثُمَّ فترت وضعفت همته، ولم يواصلها، أو لم يجدد إيمانه.
فهذا الفرق بين الحديثين وفي كل منهما عبرة لنا وعظة، وهي أنه يمكن أن تغير الكتابة الفردية العمرية التي يكتبها الملك للإنسان في الرحم وهو جنين في بطن أمه، تغير بناءً عَلَى ما سيعمله الإِنسَان من أعمال، وهذا التغيير يكون موافقاً لما في أم الكتاب، كما في حديث: {من أراد أن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه} وحديث {لا يرد القضاء إلا الدعاء} فمن وصل رحمه، وأكثر من الدعاء، فقد يصرف عنه ما قد كتب عليه وهو في بطن أمه، لكن ما وقع يكون مطابقاً للكتابة الأزلية الكونية المطابقة لعلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. يقول: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها} نسأل الله العفو والعافية
.
إذاً فدخول النَّار مترتب عَلَى العمل، وأما سبق الكتاب فهو في علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، والعبرة بالخواتيم، فقد يعمل الإِنسَان بعمل أهل النَّار، ولكن يختم له بخاتمة خير، ومن النَّاس من أسلم وجاهد كما في الحديث الصحيح عن {الرجل الذي جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم فدخل الصف فجاهد فقاتل فقتل، ولم يسجد لله عَزَّ وَجَلَّ سجدة واحدة} أسلم ودخل المعركة، فهذا ختم له بخاتمة خير رغم أن كل ماضيه كَانَ غير ذلك، والحال أيضاً أن الإِنسَان قد يعمل بعمل أهل الجنة، ويظن المؤمنون أنه منهم.
فلما جَاءَ الموت تكشفت الحقائق ونطق بما في قلبه، وأظهر الكفر الذي كَانَ يكتمه في قلبه، فيكون هذا حاله، لكن لا يشغلنا ذلك عن العبرة العظمى وهي: أن الأعمال بالخواتيم، لهذا جَاءَ في وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق النَّاس بخلق حسن}.
فلو أن العبد المؤمن كلما غلبته نفسه وغفلت فارتكب سيئة أتبعها بحسنة لمحتها وكفرتها، ولو لم تكن تلك الحسنة إلا أن يقول: استغفر الله ويتوب، فهذه حسنة من أعظم الحسنات، والاستغفار يمحو الله تَعَالَى به الخطايا
.
يقول: [والأحاديث في هذا الباب] أي: في باب إثبات الكتابة والعلم السابق [كثيرة وكذلك الآثار عن السلف] من أكثر من جمع ذلك الحافظ اللالكائي رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والإمام الآجري رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه الشريعة والإمام ابن بطة العكبري في الإبانة والحافظ أبو عمر ابن عبد البر أيضاً في التمهيد الذي أشار إليه هنا.
وأيضاً كتب السنة أفردت أبواباً للقدر ذكرت فيه هذه الأحاديث وزيادة عليها، فغالب كتب الحديث والسنة ذكرت ذلك يقول: [قَالَ: أبو عمر ابن عبد البر رَحِمَهُ اللَّهُ في التمهيد: قد أكثر النَّاس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون عَلَى الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق] وأكثر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه درء تعارض العقل والنقل (ج 8، 9) فيما يتعلق بمسألة القدر ومسألة الفطرة وذكر كلام ابن عبد البر وعلق عليه، واستدرك وأضاف رضى الله تَعَالَى عنهما
.